بسم الله الرّحمن الرّحيم
آل الحُــــرّ
نسبُهم – تاريخ سيرتهم – مشاهير علمائهم
إعداد عصام حسين الحرّ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
آل الحُــــرّ
نسبُهم – تاريخ سيرتهم – مشاهير علمائهم
إعداد عصام حسين الحرّ
آل الحُــرّ من العائلات العلميّة ذات الشّأن الدّينيّ والدّنيويّ، والباعِ الطّويل في السّياسة والكياسة والرّئاسة، وهي عائلةٌ عامليّة عربيّة أصلًا وحسَبًا ونسبًا، وينتهي نسبُها إلى الحُــرّ بن يزيد الرّياحي الّذي استُشهد بين يدَي الحسين بن عليّ (ع)، وبحسب ما ذكره السّيّد أحمد الحسيني في مقدّمة تحقيقه لكتاب "أمل الآمل" للشّيخ محمّد بن الحسن الحُــرّ العامليّ نقلًا عن السّيّد محسن الأمين، فإنّ الجدّ الّذي تجتمع عليه فروع هذه العائلة هو الحسين بن عبد السّلام بن عبد المطّلب بن عليّ بن عبد الرّسول بن جعفر بن عبد ربّه ابن عبد الله بن مرتضى بن صدر الدّين بن نور الدّين بن صادق بن حجازي بن عبد الواحد بن الميرزا شمس الدّين بن الميرزا حبيب الله بن علي بن معصوم بن موسى بن جعفر بن حسن بن فخر الدّين بن عبد السّلام بن حسين بن نور الدّين بن محمّد بن عليّ بن يوسف بن المرتضى بن حجازي بن محمّد بن باكير بن الحُــرّ بن يزيد بن يربوع الرّياحيّ.
تكاد تكون هذه العائلة من القبائل والعشائر النّادرة الّتي لم تُثلَمْ برِقٍّ أو استعبادٍ في أيّام العرب أو في الحروب والغزوات، وكانت قبل الإسلام تُعَدّ من القبائل والعشائر الملتزمة بعقيدة الصّابئة والأحناف السّالكةِ منهجَ التّوحيد على ملّة إبراهيم عليه السّلام. وبالعودة إلى أجداد هذه العائلة الّتي أثْرتْ مسيرة الحضارة الإنسانيّة بعطاءاتها، نجد:
أ- جدّهم الأوّل: الحُــرّ بن يزيد الرّياحيّ الّذي يعود نسبه إلى قبيلة تميم، وقد كان لهذا الجَدّ موقفٌ مشهود في واقعة كربلاء، فهو اختار في اللّحظة الحاسمة أن يكون نصيرًا للحقّ والعدالة، ليكونَ بذلك أوّل شهيدٍ يرتقي في ساحة الطّفّ بين يدَي الإمام الحسين عليه السّلام في مسيرته المبارَكة المناهِضة للظّلم والانحراف والاستبداد، وله في كربلاء مقام يقصده الزّوّار.
ب- جدّهم الثّاني: محمّد بن الحسن الحُــرّ العامليّ (1621-1692م) الّذي جدّد مجد آل الحُــرّ العِلميّ والدّينيّ، فبعد انتقال العائلة من مشغرة إلى جباع، وبعدما أمضى أربعين سنةً جوّالًا محاوِرًا ومُحاضِرًا وموجِّهًا في البلاد العربيّة والإسلاميّة، انتقل إلى إيران في عهد الشّاه الصّفويّ، حيث احتلّ سُدّة شيخ الإسلام، ونال شهرةً دينيّةً ودنيويّةً واسعة، ومن مؤلَّفاته الّتي تفوق الثّلاثمئة "الوسائل" بمجلّداته الثّلاثين، و"أمل الآمل" بجزأيه الأوّل والثّاني.
ج- جدّهم الثّالث: الشّيخ عبد السّلام الحُــرّ المتوفّى سنة 1725م. الّذي عزّزت الدّولةُ العثمانيّة مركزَه الدّينيّ، وأحلّته مكانًا رفيعًا في حياته الاجتماعيّة، لِما عرفتْه عنه من ذكاءٍ وحُسن تصرُّف نابع من الخُلق والإيمان، فأجلّت قدره، وبفضل ذلك، طلب ودَّه والي صيدا عثمان باشا، وتقرّبَ إليه حاكمُ جبل لبنان الأمير حيدر الشّهابيّ الّذي كان يلتقي وإيّاه في كثير من الأحيان عند والي صيدا، وكانت مجالس الثّلاثة مجالسَ تداوُلٍ وتشاورٍ في أمور البلاد، وسعيٍ لحلّ العالق من المشاكل والمُعضلات.
د- جدّهم الرّابع: الشّيخ علي الحُــرّ المتوفَّى سنة 1904م. وكان من أشهر زعماء جبل عامل في عصره، فقد اشتُهر بسداد الرّأي، وبُعد النّظر، وبالكرم الحاتميّ، والغيرة على مصالح الطّائفة ونزاهة القصد، وكان في المناسبات الرّسميّة (التّشريفات) يتقدّم جميعَ زعماء جبل عامل، وله مواقفُ مشهورة لدى الوزراء والولاة لا يتّسع المجال لذكرها، لذا نكتفي بالإشارة، مجرّد الإشارة، إلى موقفه في حضرة فؤاد باشا خلال حوادث سنة 1860م. والشّيخ علي كان من رجال الحركة العربيّة، وعضو مؤتمر دمشق في عهد مدحت باشا، وعُرف بطول الباع، وسعة اطّلاعه في مجالات الدِّين والدّنيا.
وفي إطار الحديث عن الشّيخ علي، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أباه الشّيخ أحمد، وجدّه الشّيخ محمّد الحُــرّ، وأسلافهما من قبل كانوا يتولَّون القضاء في جبل عامل تحت اسم "نائب البشارتين".
وإذا انتقلنا إلى القرن العشرين، نجد عددًا من العلماء المتبحّرين في الأدب والفقه والشّعر والمجتمع. من هؤلاء نذكر العلّامة الشّيخ عبد الغني الحُــرّ حفيد الشّيخ علي الحُــرّ من نجله العلّامة الشّيخ أحمد الحُــرّ، وهو الّذي لمع اسمه في النّجف الأشرف عالِمًا مبرّزًا فبل أن يتوفَّى في العام 1936م، وخلفَه هناك ابنه الشّيخ محمّد مهدي الحُــرّ الّذي اشتُهر بعِلمه الغزير وبنشاطه في العمل الوطنيّ، ما أدّى إلى اعتقاله أكثر من مرّة من قبل السّلطات الحاكمة آنذاك، وكانت وفاته بعد خروجه من آخر اعتقال في العام 1992م.
ووفقًا لمخطوطةٍ للشّيخ محيي الدّين المحمّد، فمن العلماء الوطنيّين الّذين انخرطوا في مناوأة الاستعمار العثمانيّ، وضيّق عليهم أحمد باشا الجزّار الخناق، ولاحقهم لاعتقالهم ومحاكمتهم أمام المجلس العرفيّ في عاليه، وقضَوا خلال السّنوات 1914و1915و1916و1917 نذكر:
سنة 1914: الشّيخ كامل الحُــرّ والشّيخ عبد السّلام الحُــرّ.
سنة 1915: الشّيخ إبراهيم الحُــرّ، الشّيخ إسماعيل الحُــرّ، الشّيخ عبد الله أحمد الحُــرّ، الشّيخ أحمد الحُــرّ، الشّيخ عبد الجليل الحُــرّ، الشّيخ صادق الحُــرّ، الشّيخ سليمان الحُــرّ، الشّيخ حسين سعيد الحُــرّ، الشّيخ خليل الحُــرّ، الشّيخ توفيق الحُــرّ والشّيخ عبد الرّحيم الحُــرّ.
سنة 1916: الشّيخ سعيد الحُــرّ، الشّيخ حسين يحيى الحُــرّ والشّيخ جواد الحُــرّ.
سنة 1917: الشّيخ شكري الحُــرّ والشّيخ زين العابدين الحُــرّ.
كذلك اشتُهر علماء مبرّزون أسّسوا ما يشبه الحوزة الدّينيّة، والمدرسة الّنيويّة في التّعليم والتّوجيه والإرشاد، وقد أطلقت عليهم مجلّة "العرفان"، أو على كلّ واحدٍ منهم اسم مدرسة ( المجلّد 72، العدد الثّاني، 1984م، ص 90)، ومنهم الشّيخ عبد الله الحُــرّ المتوفَّى سنة 1949م، والشّيخ محمّد الحُــرّ المتوفَّى سنة 1949م، والشّيخ محمّد الحُــرّ المتوفَّى سنة 1952م، الشّيخ مصطفى الحُــرّ المتوفَّى سنة 1959م، والّذي يُعَدّ من المحامين الأُوَل الّذين تدرّجوا في القضاء الشّرعيّ، والشّيخ عبد الكريم الحُر المتوفَّى سنة 1980م، الّذي اشتُهر بتقواه وبغزارة علمه، وقد خلفه ولده الشّيخ عبد الحميد الحُــرّ.
الشّيخ عبد الحميد الحُــرّ
أبصر الشّيخ عبد الحميد الحُــرّ النّور في بلدته جباع الحلاوة الواقعة في إقليم التّفّاح، والتّابعة إداريًّا لقضاء النّبطيّة، وكان ذلك في العام 1937م.
نشأ الشّيخ عبد الحميد في كنف والده، وتأثّر به أيَّما تأثير، وظهر عليه منذ الصّغر نزوعه إلى الإيمان، وميلُه إلى التّديُّن، وتوسّم الشّيخ عبد الكريم في ولده خيرًا، فكان أن تجاوب مع رغبته في التّوجّه إلى العلوم الدّينيّة، وهكذا غادر عبد الحميد لبنان متوجّهًا إلى النّجف الأشرف في العام 1950م وكان عمره آنذاك ثلاثة عشرَ عامًا.
في النّجف الأشرف، انغمس الشّيخ اليافع في العلوم الدّينيّة، وخاض عُباب المسائل الشّرعيّة والفقهيّة، وتابع دراستَه إلى أن تخرّج حاملًا ذخيرةً نفيسة من التّحصيل والأبحاث والدّراسات. وفي العام 1962 نال من "كلّيّة الفقه" في جامعة بغداد العلميّة إجازة بكالوريوس في العلوم الإسلاميّة والعربيّة بعدما قدّم دراسةً تناول فيها سيرة الإمام السّيّد عبد الحسين شرف الدّين كقائد فكرٍ وعِلمٍ ونضال (سيأتي الحديث عن هذه الدّراسة لاحقًا)، ثمّ توجّه إلى القاهرة لينال شهادة دبلوم في التّاريخ الحديث، من كلّيّة دار العلوم في جامعة القاهرة.
بعد هذه الرّحلة في عالم الدِّين والتّاريخ والعلوم العربيّة والإسلاميّة، عاد إلى بيروت حيث عُيِّن في العام 1969م قاضيَ شرعٍ في محكمة بيروت، ثمّ رُقّيَ ليكون قاضيًا أوّل، ثم مستشارًا في العام 1986م.
عملُه في القضاء لم يثنِه عن العمل في الحقلين الوطنيّ والاجتماعيّ، فنسجَ شبكةً واسعة من العلاقات معَ رجال الدّولة والسّياسيّين والإعلاميّين والعاملين في الشّأن العامّ، وشكّل موقعًا ناشطًا على مختلِف الصُّعُد، ولم يكتفِ بالنّشاط الميدانيّ، والمتابعةِ اليوميّة لشؤون الوطن وشجونه، بل أرفقَ ذلك بعدد كبير من المقالات والأبحاث الّتي نشرها في عدد من الصُّحُف والمجلّات، وهي مقالات وأبحاث هامّة تناولت شؤونًا دينيّة وفقهيّة وقضائيّة وفلسفيّة واجتماعيّة وعلميّة ووطنيّة، وقد يكون من الواجب أن تُجمَع يومًا وتصدر في كتاب.
عندما اندلعتِ الأحداث المشؤومة في لبنان إثر اغتيال الشّهيد معروف سعد في آذار العام 1975 وحادثةِ بوسطة عين الرّمّاتة في نيسان من السّنة نفسها، لم يغِب الشّيخ عبد الحميد عن العمل الوطنيّ، وبذل ما استطاع من جهود للحدّ من التّداعيات الِاجتماعيّة للحرب الّتي ادّت إلى وقوع خسائرَ مادّيّةٍ وبشريّة كبيرة جدًّا، وإلى حصول مآسٍ اجتماعيّة متعدّدة الوجوه نتيجةَ أعمال الخطف والقنص والقصف الّتي لم تفرِّقْ بين مرتكب وبريء، ولم يكن لها من عنوان سوى اعتماد الانتماء الطّائفيّ والمذهبيّ في تصنيف المواطنين.
وظّف الشّيخ عبد الحميد كلّ ما يملك من علاقات ومن قدرات لإنتاج موقف وطنيّ عابر للطّوائف بحيث يجمع ولا يفرّق، وقد تُوّجت هذه الجهود في الأوّل من أيلول من العام 1977 عندما تمَّ الإعلان عن قيام "الجبهة الوطنيّة الإسلاميّة" الّتي ضمّت إلى الشّيخ عبد الحميد كلًّا من فضيلة الشّيخ الدّكتور صبحي الصّالح وقائد جيش لبنان العربيّ الضّابط أحمد الخطيب، وكان الهدف من هذه الجبهة تكريسَ عروبة لبنان وإرساء قواعدَ لعملٍ وطنيّ حقيقيّ يتجاوز الاعتباراتِ الطّائفيّة والمذهبيّة، ويسعى إلى ترسيخ الانتماء إلى الوطن والولاء له بعيدًا عن أيّ ولاءٍ آخر.
وسط هذه المعمعة من الاقتتال، وخلال جولات القصف والقصف المضادّ، كان للشّيخ عبد الحميد نصيبُه من ضريبة العُنف المجنون، فقد كان منزله الكائن في محلّة قصقص من ضمن المنازل الّتي دُمّرت نتيجةَ ما تعرّضت له المنطقة من قصف مباشر مصدرُه خطوط التّماسّ المقابِلة، ما جعله يقضي المرحلة الأخيرة من حياته مهجَّرًا، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من اللّبنانيّين الّذين فقدوا أملاكهم وتضرّرت أرزاقهم، وراحوا يتنقّلون من حيٍّ إلى حيّ، ومن بلدةٍ إلى بلدة، هربًا من إجرام المجرمين والقتل المجّانيّ المجنون.
برغم كلّ ذلك، لم يغب الشّيخ عن ساحة العمل، سواء أ كان ذلك بصفته الشّخصيّة أم بصفته أحد مؤسّسي "الجبهة الوطنيّة الإسلاميّة"، لكنّ المؤامرة كانت أكبر بكثير من جهود مجموعةٍ من المخلصين للوطن ولأبناء الوطن، فاستؤنف القتال، واستمرّ الصّراع، وخُطف الإمام موسى الصّدر، وهُيِّئتِ الأجواء لاجتياح العام 1982م الّذي بلغ فيه الجيشُ الصّهيونيّ العاصمةَ بيروت.
كان الاجتياح بمثابة الإعصار الّذي عصف بالوطن، فالغزاة دمّروا، وقتلوا، وشرّدوا، واعتقلوا، ونشروا الموت والخراب حيث مرّت دبّاباتهم، وحيث حلّق طيَرانهم، وحيث وطئ جنودهم، وحيث كان لهم أيّ وجود. في ظلّ هذه الظّروف، يبدو أنّ قلب الشّيخ عبد الحميد لم يحتمل كلّ هذه التّداعيات، وبدأ وضعه الصّحّيّ بالتّراجع إلى أن انتقل إلى رحمة ربّه يوم الثّلاثاء في الثّامنَ عشرَ من تشرين الأوّل من العام 1988م. تاركًا الأثر الطّيّب، والذّكر الحسن، بعدما أوكل إلى ولده الشّيخ ناصر متابعةَ حمْل لواء الدِّين والسّعي إلى نشر المحبّة بين النّاس انطلاقًا من الإيمان الصّادق والتّديّن الحقيقيّ لتغليب منطق الحوار واعتماد الكلمة الطّيّبة بدلًا من منطق القوّة ولغة العنف والقتل.
***
سبقت الإشارة إلى أنّ الشّيخ عبد الحميد الحُــرّ نال شهادة البكالوريوس في "العلوم الإسلاميّة والعربيّة" بناءً على دراسة أعدّها عن الإمام السّيّد عبد الحسين شرف الدّين. هذه الدّراسة أُنجزت في ربيع العام 1962، وتحوّلت إلى كتاب صدر عن "دار الصّادق" في بيروت في العام 1972م.
وممّا جاء في مقدّمة الشّيخ عبد الحميد للكتاب :
"... كان ذلك في "النّجف الأشرف"، حين أردتُ نيل إجازتي العلميّة في "العلوم الإسلاميّة والعربيّة" مع مجموعةِ طلّاب السّنة المنتهية في "كلّيّة الفقه"... أثناء ذلك، ألزمني الأستاذ المختصّ في مادّة "تاريخ الأدب العربيّ" الدّكتور عبد الرّزّاق محيي الدّين، كما ألزمَ كلَّ واحدٍ من زملائي، باختيار موضوعٍ يكون جديرًا بالبحث والكتابة، أضعُ فيه رسالةً تتناول تحليلًا ودراسةً لمحتوى ذلك الموضوع ومضمونه، مشترطًا أن لا يكون قد سبقني إلى دراسته، وتجليةِ خصائصه، باحثٌ أو كاتب... بدأتُ البحثَ والتّنقيب عن موضوعٍ يكون له الوقعُ في نفسي، ويستهوي رغبتي في الدّراسة... وتوقّفتُ خلال جولتي الفكريّة في مجال الانتقاء والاختيار أمام طبقة "الأبطال والمصلحين" الّذين كانوا وراء بناء الأُسُس، لقيام مفهوم الحضارة بجميع أبعادِها.. الثّقافيّة والإنسانيّة والوطنيّة في عصرنا المُعاش.
وباستعراضي لهذه السّلسلة الخالدة من الأبطال والموجِّهين لحركة العقول البشريّة، استوقفتني شخصيّة مميّزة كان لها، في حقول العطاء ومجالاته، مفهومٌ إنسانيّ شامل، أسهمَ في تكوين واقعِنا الثّقافيّ والتّأثير في ما نحملُ من فكر وقيَم توجيهيّة في إطار واقعنا العصريّ، ألا وهي شخصيّة الإمام الرّاحل السّيّد عبد الحسين شرف الدّين قُدّس سرّه... وأخذتُ طريقي في رحلة تجميع "المادّة العلميّة" الّتي أحتاج إليها أثناء وضع دراستي، فبهرني ما رأيتُ من سعةٍ في آثار "شخصيّة الإمام"، وأصالةٍ.. بطُرُقٍ متعدّدة توصل بنهاياتها إلى آفاق رحبةٍ تضيء أمام طلّاب الثّقافة شتّى حقول المعرفة، في مختلِف مجالات الفكر والنّضال.
وأمام هذه السّعة في المساحة التّاريخيّة، والفكريّة، لشخصيّة الإمام شرف الدّين، وحياته الزّمنيّة... رأيتُ نفسي ملتزمًا بأخذ منهجيّة معيَّنةٍ لدراسة شخصيّته، ترتكز على التّوسّع في بحث "حقل" بارز من حقول حياته الكريمة، معَ لمساتٍ ومحاولاتٍ بسيطة، تتناول بقيّةَ خصائص شخصيّته، بأسلوبٍ مختصَر مضغوط، تجاوبًا مع طبيعةِ هذه الدّراسة، وما تتطلّبه من انسجامٍ وتنسيق.
... فوزّعتُ "حياته العلميّة" إلى ثلاثة أدوار متتالية.. تبتدئ بنشأته الأولى في لبنان، حتّى بلوغه ريعان الصّبا، ثمّ هجرته إلى العراق، وحتّى اكتمال نموّه الفكريّ، وتنتهي بعدها بعطائه الشّامل في الأقطار العربيّة والإسلاميّة كافّة...".
ولدى تصفُّح الكتاب، نلاحظ أنّ الشّيخ عبد الحميد قد تناول في دراسته بشكلٍ وافٍ دراسة شخصيّة الإمام شرف الدّين، بدءًا من مولده في العام 1873م/1290ه، مرورًا بشخصيّته وقوّة بيانه وتواضعه ورحلاته، ودوره البارز في مؤتمر وادي الحجير، ومحاولة اغتياله، ثمّ محاولة اعتقاله، والموقع الّذي احتلّه في العالَمَين العربيّ والإسلاميّ، والمؤلّفات الّتي أثرى بها المكتبتين العربيّة والإسلاميّة، وانتهاءً بآراء الأعلام والمراجع فيه، وبوفاته يوم الثّلاثاء في 31 كانون الأوّل 1957م/ 8 جمادى الآخرة 1377ه وتشييعه ورثائه.
هي دراسة ينطبق عليها القول "ما قلّ ودلّ"، فالشّيخ عبد الحميد استطاع بصفحات كتابه المئة والأربعين أن يحيط بشخصيّة الإمام شرف الدّين، وأن يقدّم سردًا، فيه من الإيجاز بقدر ما فيه من الوضوح، لفكره ونشاطه ومكانته العلميّة والفكريّة والفقهيّة، وللأدوار الّتي اضطلع بها، وخصوصًا دورَه الوطنيّ الّذي سجّله التّاريخ بأحرفٍ من نور.
أخيرًا، لم يكن الدّور الّذي اضطلع به الشّيخ عبد الحميد على الصّعيدَين الدّينيّ والوطنيّ أمرًا طارئًا، أو من خارج السّياق، وإنّما هو دور مكمّل لدور أسلافه من آباء وأجداد، ونستطيع أن نقول إنّه قد قدّم للوطن وللرّسالة الدّينيّة الّتي حملها كلَّ ما يملك وأقصى ما يستطيع. صحيح أنّه لم يستطع تحقيق كلّ ما كان يطمح إليه، خصوصًا على الصّعيد الوطنيّ، نتيجةَ عِظَمِ المؤامرة الّتي أوقعت الوطن في براثنها، إلّا أنّه استطاع أن يترك بصمةً مضيئة تشير إلى رجلٍ عبر سماء هذا الوطن فأعطاه، وحمل لواء الإسلام فبذل له ما بذل.
في رحاب الله الرّحمن الرّحيم يا أبا ياسر، والأمل كبير في أن تستمرّ مسيرة العطاء في العائلة بعدك، فتنتقل الرّاية من الشّيخ ناصر إلى أجيال لاحقة نتوسّم فيها الخير، والحمد لله ربّ العالمين.