للوطن كان.. وللإنسان

إعداد عصام حسين الحر


الشيخ عبد الحميد الحرّ نجمٌ سطع في سماء جباع، ثمّ ما لبث أن شعّ نوره ضياءً في سماء كلّ الوطن. 

رجلٌ رضع الإيمان في بيتٍ قام على الورع والتُّقى، ومنذ نعومة أظفاره شغلَه التفكيرُ في الحياة والكون والأسرار الكبيرة الّتي يحملها هذا الوجود.

عطشٌ شديد إلى المعرفة لازمَهُ، حتّى إذا لمس والدُه العالِمُ الجليل ما يغوص فيه ولدُه من أفكار وتأمّلات سهّل له تحقيق رغبته في التّوجّه إلى النّجف الأشرف ليغرف هناك من مَعين العِلم والمعرفة. 

كان توجّهه إلى النّجف الأشرف كتوجُّه سمكةٍ تقصد بحرًا يمدّها بالطّاقة ويوقد فيها جذوة الحياة.

نهلَ من العِلم ما قُدِّر له أن ينهل. نال نصيبًا وافرًا من العلوم الدّينيّة، وعرّج على الأدب واللّغة، فكان له منهما نصيب، حتّى إذا حمل من الشّهادات ما حمل، عاد إلى أرض الوطن عالِمًا عاملًا يعتمل في داخله الكثير من الأحلام والرّؤى والأهداف الّتي وضعها نصب عينيه وبدأ السّعي لتحقيقها.

كان هدفه خدمة الإنسان في هذا الوطن، وتعزيز المفهوم الّذي يقول إنّ الوطن هو الحاضنة الحقيقيّة لكلّ أبنائه، يعطيهم الأمن والأمان والعيش الكريم، ويُعطونه الولاء والحُبّ ويقدّمون له ما يستأهله من تضحيات.

لم يشغله منصب القضاء عن السّعي لتحقيق هذا الهدف الكبير، بل استثمر هذا الموقع لنسج شبكةٍ واسعة جدًّا من العلاقات الّتي وظّفها للوصول إلى ما حلم به.

نعم. كان الوطن القويّ في فكره النّيّر هدفًا أسمى، وكان يؤمن بأنّ الوطن لن يكون قويًّا إلّا بمواطن مرتاح ينعم بالعيش الكريم.

فاجأته الحرب الأهليّة الّتي عصفت بالوطن. عملَ على التّخفيف من تداعياتها بما ملكت يداه. وظّف علاقاته لإطلاق مخطوف هنا، ومساعدة مهجَّر هناك، وتقديم المساعدة لعائلةٍ نكبتها الظّروف هنالك.

قدّم في هذا المجال الكثير. كان يراهن على أنّ الحرب لن تكون أكثر من حالة استثنائيّة لن تدوم طويلًا. لكنّ رهانه لم ينجح، فسارع إلى المشاركة في تأسيس وقيام " الجبهة الوطنيّة الإسلاميّة" مع الشّيخ الدّكتور صبحي الصّالح وآخرين. كان الهدف أن تكون هذه الجبهة نافذةً ينفتح من خلالها المسلمون على الطّوائف الأخرى، ويتقبّلون عبرها الرّأي الآخر بوعيٍ وسعة أفق، أمّا الهدف الأبعد لهذه الجبهة فكان حفظ هويّة الوطن العربيّة والحفاظ على التزامه بالدّفاع عن القضايا الإنسانيّة الكبرى وعلى رأسها قضيّة فلسطين، قضيّة العرب المركزيّة.

كانت الأحلام المعلّقة على هذه الجبهة كبيرة، لكنّ المؤامرة كانت أكبر. استمرّ النّزْف. وبقيت خطوط التّماسّ. وطوّحت جولات القصف والقنص والخطف بالوطن والمواطن، وتتالت موجات التّهجير، وكان للشّيخ عبد الحميد نصيبه من ذلك، فقد أصيب منزله الواقع قريبًا من خطوط التّماسّ، وتجرّع الشّيخ كأس التّهجير، وانتقل إلى منزل آخر، من دون أن يثنيه ذلك عن تقديم ما يستطيع في سبيل ما آمنَ به، لكنّ قلبه الكبير أتعبته النّفوس الصّغيرة الّتي سارت في ركاب المؤامرة الكبيرة، فتوقّف عن الخفقان بعدما رأى المؤامرة تتوَّج بالاجتياح الصّهيونيّ لأرض الوطن.

نعم. رحل الشّيخ عبد الحميد بعد سنوات قليلة على الاجتياح الصّهيونيّ الّذي زرع الخراب في أرضٍ خرّبها الاقتتال، ونشر الدّمار في وطنٍ دمّرته الأنانيّات.

الشّيخ عبد الحميد كان رجلًا مختلفًا عن غيره من الرّجال.

كان نموذجًا قلّما يوجد نماذج مشابهة له في ما حمله من مبادئ، وفي ما قام به من أجل هذه المبادئ.

الشّيخ عبد الحميد الحرّ رجلٌ عملَ من أجل الوحدة الوطنيّة بكلّ مايستطيع. حارب السّلاح بالسّلام بعدما قلبَ الحاءَ ميمًا.

واجه الحرب بالحُبّ بعدما أعرضَ عن راء الحرب.

تصدّى للتّعصّب والانغلاق بالمحبّة والانفتاح.

رحل الشّيخ عبد الحميد الحرّ ، لكنّ ذكْره لم يغِب، فهو باقٍ في قلوب من عرفوا ما قام به في سبيل الوطن، وما قدّمه في سبيل الإنسان.

في رحاب الله أيّها العالِم العامل.

في رحاب الله يا أبا الياسر والنّاصر.